هم عيالي وأنا حر فيهم!
هم عيالي وأنا حر فيهم!
أهديكم مقولةً حكيمة منتقاة، جديرة بالتأمل، ذات أصول غربية، ولا أعرف قائلها، ولكنها متناغمة مع أصول ومقاصد ديننا الحنيف: "مِن العجَب أن المرء منا يشترط عليه دراسة واجتياز موادَّ تدريبية متخصصة قبل شروعه في كثير من المهام والأعمال، كبيرة وصغيرة؛ فمثلًا يجرِّمُ القانون - قبل اجتياز التدريب اللازم - قيادةَ العربات والشاحنات والطائرات والآلات الكهربائية والميكانيكية، وكذا تُلزم القوانينُ العالمية المصنِّعين والتجار بإعداد وطباعة أدلة ترافق جُلَّ السلع والأجهزة، وغايتها أن تُرشِد المشتَرِين والمستخدمين إلى طُرق الاستعمال الصحيح والآمن، وتحذِّرهم مِن مخاطر الاستخدام الخاطئ، وتبيِّنُ أضراره وعواقبَه، وكلنا يجدُ هذه الكتيِّبات الإرشادية مصاحبةً لأغلب السِّلع، مِن الإبرة إلى الطائرة، لكن هنالك مهمة خطيرة، ووظيفة إنسانية عظيمة، لا توجِب القوانينُ العالَمية على مَن يتولاها تدريبًا متخصصًا، أو إجازةً مِن جهة معتمدة، هذه المهمة هي أن يكون أحدُنا أبًا أو أمًّا لطفل، أو عدد من الأطفال، قلَّ أو كثُر، ومِن المؤلم أن كثيرًا ممن يَلِي هذه المهمةَ الجليلة هم مِن الجهلة، والحمقى، والمرضى، وغيرِ الأسوياء".
يقول أحدُ الآباء والأمهات في بعض مجتمعاتنا متبجِّحًا ومبررًا جَلْدَه بالسوطِ أو بالأسلاك الكهربائية الغليظة لأبنائه، وحَرْقهم وحبسهم الطويل، وتجويعهم وإهانتهم: "هم عيالي، وأنا حر في أمرهم، ولا أسمحُ لأحد بالتطفُّل والتدخُّل".
لعل بعضَنا تلفَّظ بهذه المقولة، أو سمعناها أو مثيلاتِها في محيطنا، قديمًا وحديثًا، ويشتد الألمُ، بل تعظُمُ الفاجعةُ، حينما تُنقَل هذه المقولةُ عن بعض الجهات والأفراد المنوط بهم مهمةُ أمنِ المجتمع، وحماية أفراده؛ ضعيفهم وقويهم، فحينما يُغلِظ معارضٌ - لهذا المسلَكِ المَشين - القولَ على أحد المسؤولين الرسميين، ويتَّهمهم بالبرود وخِذلان الأطفال المُعنَّفين، وتجاهُلِ ما يرَوْن على أجسادهم مِن آثار الجريمة الشنيعة، يجيب أحدهم جوابًا يفضَح أصل المشكلة، ويُثبت تفشِّي الجهل: "ماذا تريد منا أن نفعلَ أكثرَ مِن أخذ العهد كتابةً على الوالد المعتدي - أو الأم المعتدية - فهم عياله، وهو حر فيهم، ولقد عفا الطفلُ بنفسه (كيف يعفو وهو قاصر وغيرُ كامل الأهلية؟) وتنازَل عن حقِّه، وصلاحيتنا محدودة؟!".
ألم يعلَمْ هؤلاء أن اللهَ عز وجل حرَّم صراحةً على أصحاب الولايات جميعًا مثل الآباء والأزواج ونظرائهم المضارةَ في الولاية والمشقة بالموليين؟!
قال الله تعالى: ﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا ﴾ [البقرة: 231]، نزلت هذه الآية - كما أخرج ابن جرير- في رجلٍ مِن الأنصار طلَّق زوجته حتى انقضت عِدَّتُها إلا يومين أو ثلاثًا، فراجَعَها، ثم طلَّقها، فعل بها ذلك ثلاث مرات حتَّى يطيل عدتها ومعاناتها إلى تسعة أشهر، وتصرفُ هذا الزوج - في ظاهره - ضمن ولايته، ولكن الله حرَّمه؛ لأنه ظلم الولي للزوجة الموليَّة بقصد المضارة؛ فللولاية حدودٌ وضوابطُ، ويحرُمُ على الولي الإضرار بموليه، وتشتدُّ الحرمةُ وتغلُظُ إذا كان المولي قريبًا للولي؛ قاصرًا أو ضعيفًا، أو يتيمًا، أو عاجزًا.
كما قال الله تعالى بعد بيان نصيب الإخوة لأم من الميراث: ﴿ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ ﴾ [النساء: 12]؛ فالميِّت - حالَ حياته - وليٌّ على ماله بضوابط، وله أن يوصي بأن يُتَصدَّق بثُلث ماله، وأن يوصيَ بسَداد دَين قبل توزيع تركته، ولكن الله نهاه في ولايته لماله أن يستخدمَ حقوق ولايته لغرض غيرِ مشروع، ويضرَّ ورثته مِن بعده، ومثاله: الوصية بالتصدُّق بأكثرَ مِن الثُّلث، أو الكذب، أو التلاعب في ادعائه الدَّين كيدًا وإضرارًا.
هذه بعض الأدلة المحرمة لمضارة الوليِّ لموليه بسوء ولايته، والعجيب المؤلم في بعض مجتمعاتنا: استمرارُ واستمراءُ السُّكوت عن تجاهل حقوق الموليين، مثل: الأطفال والزوجات، وغض النظر عن مضارة الأولياء الثابتة بمولييهم، التي قد تصلُ إلى حدِّ المحرَّمات والجرائم المستوجِبة لتدخُّل مَن بيده الولاية العظمي، مثل: الأمراء والسلاطين؛ فالولي - كما هو معلوم - ليس حرَّ التصرفِ بلا قيد أو شرط.
إن الأعجبَ - مما سبق ذكره - القصورُ الفقهي لتحقيق مقاصد الشريعة في بعض مجتمعاتنا؛ فأحدُنا لا يستغرب حين سماعه بإقامة دعوى حجر ضد ثري من الأثرياء مِن قِبَل أبنائه وفِلْذات كبده، وحجتهم في ذلك: خَرَف أو سَفَه أو سَرَف؛ فالمال عصَبُ الحياة، وفي المقابل فإننا - نادرًا - ما نسمَع بقضايا مماثلة لنزع ولاية ولي ثبتَتْ مضارَّتُه النفسية والجسدية بمولييه، قضايا تبادر إلى رفعها الجهاتُ المكلَّفة بحماية الإنسان في مجتمعاتنا، ولعل بعضنا يستغرب ويعترض إن سمِع بنزع ولاية أب أو أم ثبت شرعًا إضرارُهما بأبنائِهما، وقد يقول: لم تتدخَّلُ هذه الجهات؟ وبأي حق تتطفَّلُ على ولاية الأبِ المشروعة على أولاده؟!
واللهِ، إن بعضَ حالنا ومقالنا لعجيب، ومخالف للدِّين، أليس الإنسانُ أغلى مِن كل كنوز الأرض؟ أليس دمُ المسلم حرامًا وأغلى وأعلى شأنًا عند الله مِن الكعبة البيت الحرام؟!
إن المضارَّة بالأطفال وتعنيفَهم جريمةٌ وخيانة للولاية، وتستوجب تدخُّلَ أولي العقل والأمرِ والنهي، ولا صحةَ لِمَن يدعي حرية ولايته لأولاده بلا ضابط أو حسيب أو رقيب؛ فللسلطان أو مَن يُعيِّنه مِن القضاة ولايةٌ أعلى، تتدخَّل شرعًا لرفع الضرر عن المولي المتضرِّر، وفي بعض الحالات قد تُنزَع ولاية الوالد منه، وتعطى لكافلٍ قريبٍ أو غريب.
إن تعنيفَ الأبناء - صغارًا أو كبارًا - مضارَّة مِن الولي بمولييه، والسكوت عنها وتجاهلُها مِن قِبل المجتمع أو بعض الجهات الرسمية مؤشِّرٌ خطير على حالة جهل متفشية، تثمر حيدًا وانحرافًا كبيرًا عن مراد الشارع الحكيم في فهم وتطبيق كثيرٍ للولاية، وهذا يحتاج إلى علاج توعوي وشمولي يشمَل كل قطاعات المجتمع، ويُعيد تأهيلَ بعض الجهات الرسمية ذات العلاقة، بحيث تكون جزءًا مِن العلاج بدلًا من أن تكون جزءًا من المشكلة.
ومِن نافلة القول: إعداد وتطبيق ومتابعة هذا العلاج الشمولي على أيدي المختصين النفسيين، وخبراء التربية، وأصحاب الاختصاص والخبرة، ويا ليتنا نبادر بعلاج المشكلة من جذورها؛ بتدريسِ الناشئة أصولَ وضوابط الولاية الصحيحة، ولعلنا نُفيد من إلزام كل المُقْبِلين على الزواج والمتزوِّجين بحضور وِرَش عمل تُبيِّن معنى ولاية الوالدين، وأهدافها، وضوابطها، وحدودها.
إن الثمرة المرة لتعنيف الأولاد ومضارة أوليائهم لهم يَجْنيها المجتمع بأَسْره؛ فلهذا المسلَك الخاطئ أضرارٌ على نفسية الأولاد المُعنَّفين، يفصِّلها المختصون؛ فهي تُعِيق التكوينَ السليم، فيضطرب نموهم؛ فالعنف - كما تُثبِت الأبحاثُ - يضر بالاستقرار النفسي للمُعنَّفين، ولا ينتج أفرادًا أسوياءَ نفسيًّا، وقادرين على الاندماج في المجتمع، والمشاركة في ركب العطاء؛ لذلك فإن مضارةَ الأطفال وتعنيفهم مِن قِبل أوليائهم ليس - كما يتوهَّم البعضُ - مقصورًا في حدود الأسرة، بل هو شأنٌ عامٌّ يتعدى حدود الأسرة الصغيرة ليشمل كل المجتمع، وهذا يقتضي استنفار كلِّ المجتمع لعلاج ظاهرة مضارة وتعنيف الأطفال؛ فلقد أصبحَتْ ظاهرةً، ولا يمكن إنكارها، أو السكوتُ عنها.
إن خيرَ ما يختم به البحث: نصيحةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجال الإصلاح المجتمعي الشامل: ((مَثَل القائم في حدود الله والواقع فيها، كمَثَل قومٍ استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقَوا مِن الماء مرُّوا على مَن فوقهم، فقالوا: لو أنا خرَقْنا في نصيبنا خرقًا، ولم نؤذِ مَن فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلَكوا جميعًا، وإن أخَذوا على أيديهم، نجَوْا ونجَوْا جميعًا))؛ رواه البخاري.
0 التعليقات: